إن العنف الجماعي ليس جزءا حتميا من حياتنا ولا يتوقع منا أن نتقبله كنمط يتصف به مجتمعنا، وهو ليس مشكلة مستعصية لا يمكن التغلب عليها بل من الممكن تحديد جذورها وأشكالها وعواقبها وبالتالي التخلص منها.
تعريف العنف حسب منظمة الصحة العالمية: الاستعمال المتعمد للقوة أو القدرة سواء بالتهديد أو الإستعمال الفعلي لها من قبل الشخص ضد نفسه أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، بحيث يؤدي إلى حدوث أو رجحان إحتمال حدوث إصابة أو موت أو إصابة نفسية أو سوء النماء أو الحرمان.
يمكن أن يعرف العنف الجماعي بأنه استخدام العنف كآلة أو وسيلة بواسطة أشخاص يعرفون أنفسهم بأنهم أعضاء في مجموعة، سواء كانت هذه المجموعة ثابتة أو مرحلية من ناحية المكان والزمان، ضد مجموعة أخرى وذلك لتحقيق أغراض اجتماعية أو إقتصادية أو سياسية، منفردة أو مجتمعة.
يجب تمييز العنف الجماعي عن العنف المجتمعي والذي يقصد به: العنف الذي يقع بين أشخاص لا تجمعهم قرابة سواء كانوا يعرفون بعضهم او لا يعرفون، ويكون موضع العنف خارج المنزل عموما.
عنف الفتيان (ذوي الأعمار بين 10 -29 سنة) يشمل طيفا واسعا من الأعمال العدوانية تتراوح بين التهديد و الضرب البدني إلى الإعتداء والإغتصاب والقتل. والذكور هم الجناة الأساسيين في العنف وضحاياه.
تأسيسا على هذا التعريف فإن الدافع وراء ارتكاب العنف الجماعي المتمثل بالعنف ما بين عائلات أو عشائر أو سكان أحياء محددة ضد مجموعات سكانية مشابهة يتعدى بطبيعة الحال حالة الغضب الآني المرافق لارتكاب جريمة ضد أحد أفراد الجماعة، إلى أغراض إجتماعية أو إقتصادية أو سياسية تخدم مصالح هذه الجماعة، وبذلك يستخدم هذا العنف كوسيلة ضغط لتحقيق هذه الأهداف.
إن قيام جماعة محددة، العشيرة مثلا، بعقاب مرتكب جريمة بحق أحد أفرادها والإنتقام منه بإيذاء أحد أفراد أسرته أو عشيرته أو ممتلكاتهم، أو قيام الجماعة بحماية غير قانونية لأحد أفرادها ارتكب جريمة ما ضد شخص من جماعة أخرى، هي وبصراحة مؤشرات راسخة على غياب الثقة بالسلطة القضائية وبدور الدولة الوقائي والعقابي في مواجهة الجريمة.
عوامل الخطورة لحدوث العنف الجماعي:
لقد نصت القوانين الجزائية الأردنية على عقوبة محددة لكل جريمة تطبق على الجميع بمساواة من قبل سلطة قضائية مشهود لها بالمهنية والنزاهة والحيادية، وعلى ترتيبات وقائية لمنع الجرائم والحد من تفاقمها، وشهد تاريخ العشائر الأردنية صفحة ناصعة في دعم الدور الوطني للدولة في مواجهة الجريمة، إلا أن ما نشاهده من عنف جماعي مؤخرا هو مؤشر على ضعف الثقة بالدولة الذي يتراوح بين حقيقة واقعة كتدني فعالية شبكة الأمان الإجتماعي وبين نظرة أفراد المجتمع للدولة التي تراجع دورها الحقيقي بسبب إزدياد الخصخصة ونقص حجم القطاع العام.
وعليه فإن سبب الخلل الذي أدى إلى العنف الجماعي في مجتمعنا والذي شاهدناه مؤخرا، هو تعاضد ضعف ثقة المواطن بالدولة بسبب غياب دورها الحقيقي مع شيوع ثقافة أن العنف الجماعي هو وسيلة ضغط على الدولة لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية تخدم الجماعة أو بعض أفرادها.
أما عوامل الخطورة الأخرى التي تؤدي إلى حصول الشغب والعنف الجماعي والتي تتعاضد مع ضعف الثقة بسلطة الدولة، فتتمثل في إخفاق الدولة بإدارة التحديات السياسية، واتساع حالة التفاوت الإجتماعي، وزيادة توفر الأسلحة الفردية بين المواطنين.
ومن العوامل الديموغرافية التي أدت إلى ضعف دور الحكومة واستبداله بدور محلي للعشيرة هو تزايد الكثافة السكانية وازدياد نسبة الشباب في المجتمع المحلي وإخفاق الدولة بالتلاؤم مع ازدياد السكان وما يتطلب ذلك من دعم اجتماعي لهم، بالإضافة إلى المستويات العالية من البطالة خاصة ما بين الشباب، فضعف دور الدولة في موجهة هذه المشكلة أدى إلى استبداله بدور للعشيرة.
إن الثقافة السائدة حول تقبل العنف بما في ذلك العنف الجماعي، يعكس موروثا اجتماعيا وقيميا هاما ويساهم في تشكيل أهم عوامل الخطورة لحصول العنف، فالعوامل الثقافية تؤثر مباشرة على شدة وأشكال العنف في مجتمعنا، فمثلا يتم الإقرار والرضا بأن العنف طريقة طبيعية لحل النزاعات والخلافات ويتعلم المواطنين، وخاصة الشباب منهم، تبني القيم التي تدعم السلوك العنفي. أما الترويج لثقافة الإنتماء العشائري بما يفوق الانتماء للأسرة والمجتمع المحلي وللدولة فيشكل أيضا عامل خطورة أساسي في حصول العنف الجماعي ومن الدقة وصفه بأنه تزويد وشحن بنعرات سلبية غير مقبولة.
أما عوامل الخطورة الفردية المتمثلة بفرط الاندفاعية وضعف السيطرة على السلوك، والنّزق والعصبية فقد لا تلعب دورا هاما في أن تكون السبب المباشر للعنف الجماعي إلا أن مثل هؤلاء الأشخاص يكونوا السباقين في ممارسة الأفعال العدائية أثناء حدوث العنف الجماعي.
مرجعيات مواجهة العنف الجماعي:
أولا: إن المرجعية الأساسية في مواجهة العنف الجماعي، هو أن هناك سلطة للكحومة يعبر عنها بوجود أطر قانونية نافذة تطبق على جميع المواطنين بالتساوي، فمقياس النجاح في مواجهة العنف هو قوة الردع المتمثلة بالمدى الذي تستطيع الدولة من خلاله تطبيق قوانينها الجزائية بقوة وحزم على مرتكبي الجرائم، وتنفيذ قوانينها المتعلقة بالوقاية من العنف قبل حدوثه ومنع تفاقم عواقبه بعد حدوثه.
ثانيا: المرجعية الثانية في مواجهة العنف الجماعي تتمثل بتطبيق الحكومة لسياسات توفر الحماية الإجتماعية للمواطنين، بترسيخ التكامل الاجتماعي في مواجهة التفرقة، التعصب، الإضطهاد، النفور، والكراهية، والإنفصالية.
تأسيسا على المرجعيات المشار إليها أعلاه يتوقع من الحكومة أن تضع إستراتيجية وطنية للوقاية من العنف، بما في ذلك العنف الجماعي، على أن تضمن تنفيذها بخطة عمل قابلة للمراقبة والتقييم.
ويتوقع أن تهدف الإستراتجية الوطنية للوقاية من العنف إلى مايلي:
(1) تحقيق البنية الإجتماعية العادلة والثابتة، وبناء الروابط بين المجموعات السكانية بناء على العدالة والمواطنة والمساوة كعنصر أساسي وقائي لمنع العنف.
(2) تطوير الموارد البشرية والعمل بطرق مختلفة لإدماح المواطنين في مشاريع تنموية.
(3) إدماج الوقاية من العنف في السياسات الإجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية لمواجهة ثقافة تقبل العنف.
(4) المحافظة على الأمن والآمان في المجتمعات المحلية بما في ذلك مواجهة الإنتشار غير القانوني للإسلحة الصغيرة.
(5) وضع برامج تهدف لاعتماد مبدأ اللاعنف من قبل فئة الشباب اليافعين في الجامعات والمدارس والمجتمعات المحلية والوصول لآليات تكشف مبكرا نزعات العنف لديهم.
(6) وضع آليات لضمان الإستجابة المهنية لحماية ضحايا العنف من الناحية الصحية والنفسية والاجتماعية وكذلك القانونية بضمان رد الضرر والتعويض.
ليس العنف أمرا حتميا علينا تقبله، فهو آفة من الممكن علاجها ومن الممكن الوقاية منها إذا تحمل المواطن والأسرة والعشيرة والدولة أدوارهم بمسئولية، كل في مجاله.
الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي
الخبير في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة