2016/11/26

سراب دولة سيادة القانون، العنف الجماعي مثالاً

إن العنف الجماعي ليس جزءا حتميا من حياتنا ولا يتوقع منا أن نتقبله كنمط يتصف به مجتمعنا، وهو ليس مشكلة مستعصية لا يمكن التغلب عليها بل من الممكن تحديد جذورها وأشكالها وعواقبها وبالتالي التخلص منها.
تعريف العنف حسب منظمة الصحة العالمية: الاستعمال المتعمد للقوة أو القدرة سواء بالتهديد أو الإستعمال الفعلي لها من قبل الشخص ضد نفسه أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، بحيث يؤدي إلى حدوث أو رجحان إحتمال حدوث إصابة أو موت أو إصابة نفسية أو سوء النماء أو الحرمان.
يمكن أن يعرف العنف الجماعي بأنه استخدام العنف كآلة أو وسيلة بواسطة أشخاص يعرفون أنفسهم بأنهم أعضاء في مجموعة، سواء كانت هذه المجموعة ثابتة أو مرحلية من ناحية المكان والزمان، ضد مجموعة أخرى وذلك لتحقيق أغراض اجتماعية أو إقتصادية أو سياسية، منفردة أو مجتمعة.
يجب تمييز العنف الجماعي عن العنف المجتمعي والذي يقصد به: العنف الذي يقع بين أشخاص لا تجمعهم قرابة سواء كانوا يعرفون بعضهم او لا يعرفون، ويكون موضع العنف خارج المنزل عموما. 
عنف الفتيان (ذوي الأعمار بين 10 -29 سنة) يشمل طيفا واسعا من الأعمال العدوانية تتراوح بين التهديد و الضرب البدني إلى الإعتداء والإغتصاب والقتل. والذكور هم الجناة الأساسيين في العنف وضحاياه.

تأسيسا على هذا التعريف فإن الدافع وراء ارتكاب العنف الجماعي المتمثل بالعنف ما بين عائلات أو عشائر أو سكان أحياء محددة ضد مجموعات سكانية مشابهة يتعدى بطبيعة الحال حالة الغضب الآني المرافق لارتكاب جريمة ضد أحد أفراد الجماعة، إلى أغراض إجتماعية أو إقتصادية أو سياسية تخدم مصالح هذه الجماعة، وبذلك يستخدم هذا العنف كوسيلة ضغط لتحقيق هذه الأهداف.
إن قيام جماعة محددة، العشيرة مثلا، بعقاب مرتكب جريمة بحق أحد أفرادها والإنتقام منه بإيذاء أحد أفراد أسرته أو عشيرته أو ممتلكاتهم، أو قيام الجماعة بحماية غير قانونية لأحد أفرادها ارتكب جريمة ما ضد شخص من جماعة أخرى، هي وبصراحة مؤشرات راسخة على غياب الثقة بالسلطة القضائية وبدور الدولة الوقائي والعقابي في مواجهة الجريمة.

عوامل الخطورة لحدوث العنف الجماعي:
لقد نصت القوانين الجزائية الأردنية على عقوبة محددة لكل جريمة تطبق على الجميع بمساواة من قبل سلطة قضائية مشهود لها بالمهنية والنزاهة والحيادية، وعلى ترتيبات وقائية لمنع الجرائم والحد من تفاقمها، وشهد تاريخ العشائر الأردنية صفحة ناصعة في دعم الدور الوطني للدولة في مواجهة الجريمة، إلا أن ما نشاهده من عنف جماعي مؤخرا هو مؤشر على ضعف الثقة بالدولة الذي يتراوح بين حقيقة واقعة كتدني فعالية شبكة الأمان الإجتماعي وبين نظرة أفراد المجتمع للدولة التي تراجع دورها الحقيقي بسبب إزدياد الخصخصة ونقص حجم القطاع العام.
وعليه فإن سبب الخلل الذي أدى إلى العنف الجماعي في مجتمعنا والذي شاهدناه مؤخرا، هو تعاضد ضعف ثقة المواطن بالدولة بسبب غياب دورها الحقيقي مع شيوع ثقافة أن العنف الجماعي هو وسيلة ضغط على الدولة لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية وسياسية تخدم الجماعة أو بعض أفرادها.
أما عوامل الخطورة الأخرى التي تؤدي إلى حصول الشغب والعنف الجماعي والتي تتعاضد مع ضعف الثقة بسلطة الدولة، فتتمثل في إخفاق الدولة بإدارة التحديات السياسية، واتساع حالة التفاوت الإجتماعي، وزيادة توفر الأسلحة الفردية بين المواطنين.
ومن العوامل الديموغرافية التي أدت إلى ضعف دور الحكومة واستبداله بدور محلي للعشيرة هو تزايد الكثافة السكانية وازدياد نسبة الشباب في المجتمع المحلي وإخفاق الدولة بالتلاؤم مع ازدياد السكان وما يتطلب ذلك من دعم اجتماعي لهم، بالإضافة إلى المستويات العالية من البطالة خاصة ما بين الشباب، فضعف دور الدولة في موجهة هذه المشكلة أدى إلى استبداله بدور للعشيرة.
إن الثقافة السائدة حول تقبل العنف بما في ذلك العنف الجماعي، يعكس موروثا اجتماعيا وقيميا هاما ويساهم في تشكيل أهم عوامل الخطورة لحصول العنف، فالعوامل الثقافية تؤثر مباشرة على شدة وأشكال العنف في مجتمعنا، فمثلا يتم الإقرار والرضا بأن العنف طريقة طبيعية لحل النزاعات والخلافات ويتعلم المواطنين، وخاصة الشباب منهم، تبني القيم التي تدعم السلوك العنفي. أما الترويج لثقافة الإنتماء العشائري بما يفوق الانتماء للأسرة والمجتمع المحلي وللدولة فيشكل أيضا عامل خطورة أساسي في حصول العنف الجماعي ومن الدقة وصفه بأنه تزويد وشحن بنعرات سلبية غير مقبولة.
أما عوامل الخطورة الفردية المتمثلة بفرط الاندفاعية وضعف السيطرة على السلوك، والنّزق والعصبية فقد لا تلعب دورا هاما في أن تكون السبب المباشر للعنف الجماعي إلا أن مثل هؤلاء الأشخاص يكونوا السباقين في ممارسة الأفعال العدائية أثناء حدوث العنف الجماعي.

مرجعيات مواجهة العنف الجماعي:
أولا: إن المرجعية الأساسية في مواجهة العنف الجماعي، هو أن هناك سلطة للكحومة يعبر عنها بوجود أطر قانونية نافذة تطبق على جميع المواطنين بالتساوي، فمقياس النجاح في مواجهة العنف هو قوة الردع المتمثلة بالمدى الذي تستطيع الدولة من خلاله تطبيق قوانينها الجزائية بقوة وحزم على مرتكبي الجرائم، وتنفيذ قوانينها المتعلقة بالوقاية من العنف قبل حدوثه ومنع تفاقم عواقبه بعد حدوثه.
ثانيا: المرجعية الثانية في مواجهة العنف الجماعي تتمثل بتطبيق الحكومة لسياسات توفر الحماية الإجتماعية للمواطنين، بترسيخ التكامل الاجتماعي في مواجهة التفرقة، التعصب، الإضطهاد، النفور، والكراهية، والإنفصالية.
تأسيسا على المرجعيات المشار إليها أعلاه يتوقع من الحكومة أن تضع إستراتيجية وطنية للوقاية من العنف، بما في ذلك العنف الجماعي، على أن تضمن تنفيذها بخطة عمل قابلة للمراقبة والتقييم.
ويتوقع أن تهدف الإستراتجية الوطنية للوقاية من العنف إلى مايلي:
(1)  تحقيق البنية الإجتماعية العادلة والثابتة، وبناء الروابط بين المجموعات السكانية بناء على العدالة والمواطنة والمساوة كعنصر أساسي وقائي لمنع العنف.
(2) تطوير الموارد البشرية والعمل بطرق مختلفة لإدماح المواطنين في مشاريع تنموية.
(3) إدماج الوقاية من العنف في السياسات الإجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية لمواجهة ثقافة تقبل العنف.
(4) المحافظة على الأمن والآمان في المجتمعات المحلية بما في ذلك مواجهة الإنتشار غير القانوني للإسلحة الصغيرة.
(5) وضع برامج تهدف لاعتماد مبدأ اللاعنف من قبل فئة الشباب اليافعين في الجامعات والمدارس والمجتمعات المحلية والوصول لآليات تكشف مبكرا نزعات العنف لديهم.
(6) وضع آليات لضمان الإستجابة المهنية لحماية ضحايا العنف من الناحية الصحية والنفسية والاجتماعية وكذلك القانونية بضمان رد الضرر والتعويض.
ليس العنف أمرا حتميا علينا تقبله، فهو آفة من الممكن علاجها ومن الممكن الوقاية منها إذا تحمل المواطن والأسرة والعشيرة والدولة أدوارهم بمسئولية، كل في مجاله.
الدكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي
الخبير في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة

2016/11/05

جرائم القتل في الأردن... وذاكرة السمك

 مع كل جريمة قتل لطفل معذب أو قتل أسري او انتحار بعد قتل افراد الاسرة، نرصد ارتفاع في وتيرة النشاط الإعلامي في مجالات (1) التقارير الصحفية (2) كُتّاب الاعمدة (3) الندوات التلفزيونية (4) اعلام المواطن والتواصل الاجتماعي الخ.. وتستمر لبضعة أيام... ولان ذاكرتنا في الاردن كذاكرة السمك نعود بعد بضعة أيام لملهاة السياسة الأردنية ووهم الديمقراطية ومسرحية تشكيل مجلس الوزراء والعرض الساخر لثقة مجلس النواب بالحكومة...

المنفر بالموضوع ان وزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية... لا تملك حتى ذاكرة السمك... لان موضوع الوقاية والاكتشاف المبكر لعوامل الخطر المتعلقة بالعنف والجريمة خارج اهتماماتها أصلا وهي غير معنية به مطلقا... وأكثر ما يمكن إنجازه من المؤسسات الأخرى، كالمجلس الوطني لشؤون الأسرة، هو تشكيل لجنة تحقيق تتعثر ببيروقراطية، تخفي وراءها تخلف إداري وفساد المؤسسات ذات العلاقة بموضوع التحقيق، والمخرجات بعد عدة أشهر تقرير هزيل "لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ"

جرائم القتل حسب مرجعيات منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، يقسم لثلاثة أقسام رئيسية كما يلي:
1) القتل المرتبط بالعلاقات ما بين الأشخاص وتكون الجريمة في هذا النوع من القتل بسبب وجود نزاع ما بين الجاني والمجني عليه، أو لقيام الجاني بعقاب المجني عليه لأسباب اجتماعية، ثقافية، او اقتصادية. وينقسم إلى (أ) القتل المرتبط بالنوع الاجتماعي والقتل المرتبط بالعلاقات الأسرية، والقتل العرفي (جرائم الشرف)، والانتحار بعد قتل أفراد الأسرة، وفي هذه الجرائم يكون الجاني والمجني عليه في نفس المسكن أو بينهما علاقة اجتماعية، ويرتبط هذا القتل بعوامل عاطفية أو اقتصادية أو قانونية. (ب) القتل خارج العلاقات الأسرية والعاطفية وهو مرتبط بقضايا الثأر أو الخلاف على الممتلكات، الخلافات ما بين الجيران، أو بين الغرباء تماما بحيث يكون الجاني والمجني عليه لا يعرفان بعضهما البعض مسبقا ويكون القتل هنا مرتبط بفعل عنفي عشوائي بظروف جمعت بينهما، وأيضا مرتبط بهذا النوع القتل الجماعي في أماكن العمل او المدرسة.
2) القتل المرتبط بجرائم جنائية وينقسم الى (أ) القتل المرتبط بالاتجار بالمخدرات وجرائم السرقة والسطو المسلح، والقتل المرتبط بالجرائم الجنسية، وقد لا يكون القتل هو الهدف الرئيسي لكنه ينفذ كجزء من تنفيذ الجريمة او للحيلولة دون اكتشاف السارق او المغتصب. (ب) الجريمة المنظمة من قبل العصابات وتجار المخدرات والأسلحة وتهريب البشر وتستهدف المنافسين او القائمين على العدالة أي الشرطة والقضاء أو استعراضا للقوة والسيطرة على مناطق محددة لشيوع الجريمة المنظمة.
3) القتل المرتبط بأجندات إجتماعية-سياسية ومثال عليها (أ) القتل المرتبط بالإرهاب وجرائم الكراهية، والتمييز العنصري حسب العرق، والجنسية، والدين، والمستوى الاجتماعي الخ... (ب) القتل المرتكب من قبل ضباط تطبيق القانون، (ج) قتل التنظيمات الاجتماعية-السياسية السرية اشخاص لهم رأي معلن دفاعا عن مبادئها. (د) قتل العاملين في مجال الصحافة والخدمات الإنسانية التطوعية وفي مؤسسات الأمم المتحدة. 

شيوع النوع الأول من جرائم القتل المنوه عنه أعلاه موثق في الأردن ويشكل جزءا إحصائيا هاما من مجمل جرائم القتل، وهناك عدة حالات من النوع الثاني المرتبط بالجرائم، وتم مؤخرا توثيق وقوع حالات من النوع الثالث المتعلق بجرائم الكراهية. الوقاية من هذا الجرائم عموما، كما تشير المراجع المعرفية المسندة، لا يعتمد بدرجة كبيرة على تشديد  العقوبة للردع، وإنما على برامج الوقاية الأولية بالتعامل مع عوامل الخطورة للجريمة قبل حدوثها وأيضا على برامج الوقاية الثانوية الموجهة لفئات من المجتمع معرضة للخطر أكثر من غيرها...

إتمام جريمة القتل يتطلب ان يكون هناك دافع للقتل ويتبعه التخطيط وظروف تسمح بالتنفيذ وسياق يوفر أداة الجريمة ومكانها وقدرة على التنفيذ مرتبطة مباشرة بماهية العلاقة ما بين الجاني والمجني عليه، وللأسف يغيب عن ذهن الكثيرين ان جريمة القتل لا تكتمل الا بتراخي وعجف الحكومة...
هل هناك مسؤولية على الحكومة بحدوث مثل هذه الجرائم؟ لنضع النقاط على الحروف بصراحة:
1) وزارة الصحة لا زالت تنأى بنفسها عن مهمة رئيسية تتعلق بحياة وصحة الإنسان وهي الوقاية من العنف والإصابات، على الرغم من توصيات منظمة الصحة العالمية بإنشاء مديرية الوقاية من العنف والإصابات ومنذ عدة سنوات إلا أنها لم تبادر مطلقا للولوج في هذا المجال وكأنها غير معنية به.
2) شيوع الأمراض والاضطرابات النفسية والإدمان وضعف الاستجابة لها على المستوى الوطني بالوقاية وبتوفير الخدمات العلاجية والتأهيلية وبالعمل على تطوير التشريعات المتعلقة بالطب النفسي، ويشمل ذلك وللأسف الأطفال اقل من 18 سنة حيث لا يوجد جهة حكومية تقدم الرعاية الطبية النفسية لهم.
3) وزارة التنمية الاجتماعية لا زالت متعثرة في برامج حماية الأسرة وخاصة برامج الوقاية وتغيير الاتجاهات السلبية بالمجتمع المتعلقة بالعنف، وأيضا هناك ضعف مزمن ببرامج الاستجابة للعنف الأسري والتي تتفاقم وتتكرر ليصاحبها جرائم قتل أسري.
4) هناك غياب أي جهة تتحمل مسؤولية علاج وتأهيل الأطفال مرتكبي الجرائم (الاحداث) بشكل متكامل من الناحية النفسية والاجتماعية، علما بأن الأبحاث تشير لاحتمال نجاح برامج تأهيلهم إذا تمت في وقت مبكر وبالتالي الوقاية من ارتكابهم جرائم، بما فيها القتل، عند تعديهم مرحلة الطفولة.
5) وزارة الداخلية: غياب السيطرة على شيوع أدوات ارتكاب جرائم القتل وخاصة الأسلحة النارية الصغيرة من الناحية التشريعية والتنفيذية، وعدم إعطاء أولوية لمواجهة الاتجار بالسلاح بالسوق السوداء.
6) شيوع التعاطي والاتجار بالمخدرات بأشكالها وخاصة العقاقير الطبية والمخدرات رخيصة الثمن المصنعة محليا، وشيوع فكرة هزيلة من أن الأردن لا زال ممراً للمخدرات وليس منتجا أو مستهلكا لها، علما بأن الترويج و الاقتناع بهذه الفكرة يؤدي لضعف الرقابة من قبل الأهل والمدرسة ومؤسسات المجتمع على الأطفال والأبناء.
7) مجلس النواب: الفجوات في التشريعات الاردنية التي لا زالت تسمح بالإفلات من العقاب وخاصة بجرائم قتل النساء والأطفال داخل الأسرة والمتعلقة بإسقاط الحق الشخصي.
عبارة "نحن جميعنا نتحمل المسؤولية"، أي المجتمع والدولة هي عبارة يعصى علي فهمها... لان من يتحمل المسؤولية في مواجهة عوامل الخطورة هي وزارات محددة تخفق بمهام يتوقع منها أن تنجزها بمهنية وحرفية وبمرجعية قانونية أخلاقية.
الدكتور هاني جهشان، مستشار أول الطب الشرعي

جرائم القتل في الأردن... وذاكرة السمك

 مع كل جريمة قتل لطفل معذب أو قتل أسري او انتحار بعد قتل افراد الاسرة، نرصد ارتفاع في وتيرة النشاط الإعلامي في مجالات (1) التقارير الصحفية (2) كُتّاب الاعمدة (3) الندوات التلفزيونية (4) اعلام المواطن والتواصل الاجتماعي الخ.. وتستمر لبضعة أيام... ولان ذاكرتنا في الاردن كذاكرة السمك نعود بعد بضعة أيام لملهاة السياسة الأردنية ووهم الديمقراطية ومسرحية تشكيل مجلس الوزراء والعرض الساخر لثقة مجلس النواب بالحكومة...

المنفر بالموضوع ان وزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية... لا تملك حتى ذاكرة السمك... لان موضوع الوقاية والاكتشاف المبكر لعوامل الخطر المتعلقة بالعنف والجريمة خارج اهتماماتها أصلا وهي غير معنية به مطلقا... وأكثر ما يمكن إنجازه من المؤسسات الأخرى، كالمجلس الوطني لشؤون الأسرة، هو تشكيل لجنة تحقيق تتعثر ببيروقراطية، تخفي وراءها تخلف إداري وفساد المؤسسات ذات العلاقة بموضوع التحقيق، والمخرجات بعد عدة أشهر تقرير هزيل "لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ"

جرائم القتل حسب مرجعيات منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، يقسم لثلاثة أقسام رئيسية كما يلي:
1) القتل المرتبط بالعلاقات ما بين الأشخاص وتكون الجريمة في هذا النوع من القتل بسبب وجود نزاع ما بين الجاني والمجني عليه، أو لقيام الجاني بعقاب المجني عليه لأسباب اجتماعية، ثقافية، او اقتصادية. وينقسم إلى (أ) القتل المرتبط بالنوع الاجتماعي والقتل المرتبط بالعلاقات الأسرية، والقتل العرفي (جرائم الشرف)، والانتحار بعد قتل أفراد الأسرة، وفي هذه الجرائم يكون الجاني والمجني عليه في نفس المسكن أو بينهما علاقة اجتماعية، ويرتبط هذا القتل بعوامل عاطفية أو اقتصادية أو قانونية. (ب) القتل خارج العلاقات الأسرية والعاطفية وهو مرتبط بقضايا الثأر أو الخلاف على الممتلكات، الخلافات ما بين الجيران، أو بين الغرباء تماما بحيث يكون الجاني والمجني عليه لا يعرفان بعضهما البعض مسبقا ويكون القتل هنا مرتبط بفعل عنفي عشوائي بظروف جمعت بينهما، وأيضا مرتبط بهذا النوع القتل الجماعي في أماكن العمل او المدرسة.
2) القتل المرتبط بجرائم جنائية وينقسم الى (أ) القتل المرتبط بالاتجار بالمخدرات وجرائم السرقة والسطو المسلح، والقتل المرتبط بالجرائم الجنسية، وقد لا يكون القتل هو الهدف الرئيسي لكنه ينفذ كجزء من تنفيذ الجريمة او للحيلولة دون اكتشاف السارق او المغتصب. (ب) الجريمة المنظمة من قبل العصابات وتجار المخدرات والأسلحة وتهريب البشر وتستهدف المنافسين او القائمين على العدالة أي الشرطة والقضاء أو استعراضا للقوة والسيطرة على مناطق محددة لشيوع الجريمة المنظمة.
3) القتل المرتبط بأجندات إجتماعية-سياسية ومثال عليها (أ) القتل المرتبط بالإرهاب وجرائم الكراهية، والتمييز العنصري حسب العرق، والجنسية، والدين، والمستوى الاجتماعي الخ... (ب) القتل المرتكب من قبل ضباط تطبيق القانون، (ج) قتل التنظيمات الاجتماعية-السياسية السرية اشخاص لهم رأي معلن دفاعا عن مبادئها. (د) قتل العاملين في مجال الصحافة والخدمات الإنسانية التطوعية وفي مؤسسات الأمم المتحدة. 

شيوع النوع الأول من جرائم القتل المنوه عنه أعلاه موثق في الأردن ويشكل جزءا إحصائيا هاما من مجمل جرائم القتل، وهناك عدة حالات من النوع الثاني المرتبط بالجرائم، وتم مؤخرا توثيق وقوع حالات من النوع الثالث المتعلق بجرائم الكراهية. الوقاية من هذا الجرائم عموما، كما تشير المراجع المعرفية المسندة، لا يعتمد بدرجة كبيرة على تشديد  العقوبة للردع، وإنما على برامج الوقاية الأولية بالتعامل مع عوامل الخطورة للجريمة قبل حدوثها وأيضا على برامج الوقاية الثانوية الموجهة لفئات من المجتمع معرضة للخطر أكثر من غيرها...

إتمام جريمة القتل يتطلب ان يكون هناك دافع للقتل ويتبعه التخطيط وظروف تسمح بالتنفيذ وسياق يوفر أداة الجريمة ومكانها وقدرة على التنفيذ مرتبطة مباشرة بماهية العلاقة ما بين الجاني والمجني عليه، وللأسف يغيب عن ذهن الكثيرين ان جريمة القتل لا تكتمل الا بتراخي وعجف الحكومة...
هل هناك مسؤولية على الحكومة بحدوث مثل هذه الجرائم؟ لنضع النقاط على الحروف بصراحة:
1) وزارة الصحة لا زالت تنأى بنفسها عن مهمة رئيسية تتعلق بحياة وصحة الإنسان وهي الوقاية من العنف والإصابات، على الرغم من توصيات منظمة الصحة العالمية بإنشاء مديرية الوقاية من العنف والإصابات ومنذ عدة سنوات إلا أنها لم تبادر مطلقا للولوج في هذا المجال وكأنها غير معنية به.
2) شيوع الأمراض والاضطرابات النفسية والإدمان وضعف الاستجابة لها على المستوى الوطني بالوقاية وبتوفير الخدمات العلاجية والتأهيلية وبالعمل على تطوير التشريعات المتعلقة بالطب النفسي، ويشمل ذلك وللأسف الأطفال اقل من 18 سنة حيث لا يوجد جهة حكومية تقدم الرعاية الطبية النفسية لهم.
3) وزارة التنمية الاجتماعية لا زالت متعثرة في برامج حماية الأسرة وخاصة برامج الوقاية وتغيير الاتجاهات السلبية بالمجتمع المتعلقة بالعنف، وأيضا هناك ضعف مزمن ببرامج الاستجابة للعنف الأسري والتي تتفاقم وتتكرر ليصاحبها جرائم قتل أسري.
4) هناك غياب أي جهة تتحمل مسؤولية علاج وتأهيل الأطفال مرتكبي الجرائم (الاحداث) بشكل متكامل من الناحية النفسية والاجتماعية، علما بأن الأبحاث تشير لاحتمال نجاح برامج تأهيلهم إذا تمت في وقت مبكر وبالتالي الوقاية من ارتكابهم جرائم، بما فيها القتل، عند تعديهم مرحلة الطفولة.
5) وزارة الداخلية: غياب السيطرة على شيوع أدوات ارتكاب جرائم القتل وخاصة الأسلحة النارية الصغيرة من الناحية التشريعية والتنفيذية، وعدم إعطاء أولوية لمواجهة الاتجار بالسلاح بالسوق السوداء.
6) شيوع التعاطي والاتجار بالمخدرات بأشكالها وخاصة العقاقير الطبية والمخدرات رخيصة الثمن المصنعة محليا، وشيوع فكرة هزيلة من أن الأردن لا زال ممراً للمخدرات وليس منتجا أو مستهلكا لها، علما بأن الترويج و الاقتناع بهذه الفكرة يؤدي لضعف الرقابة من قبل الأهل والمدرسة ومؤسسات المجتمع على الأطفال والأبناء.
7) مجلس النواب: الفجوات في التشريعات الاردنية التي لا زالت تسمح بالإفلات من العقاب وخاصة بجرائم قتل النساء والأطفال داخل الأسرة والمتعلقة بإسقاط الحق الشخصي.
عبارة "نحن جميعنا نتحمل المسؤولية"، أي المجتمع والدولة هي عبارة يعصى علي فهمها... لان من يتحمل المسؤولية في مواجهة عوامل الخطورة هي وزارات محددة تخفق بمهام يتوقع منها أن تنجزها بمهنية وحرفية وبمرجعية قانونية أخلاقية.
الدكتور هاني جهشان، مستشار أول الطب الشرعي