2016/11/05

جرائم القتل في الأردن... وذاكرة السمك

 مع كل جريمة قتل لطفل معذب أو قتل أسري او انتحار بعد قتل افراد الاسرة، نرصد ارتفاع في وتيرة النشاط الإعلامي في مجالات (1) التقارير الصحفية (2) كُتّاب الاعمدة (3) الندوات التلفزيونية (4) اعلام المواطن والتواصل الاجتماعي الخ.. وتستمر لبضعة أيام... ولان ذاكرتنا في الاردن كذاكرة السمك نعود بعد بضعة أيام لملهاة السياسة الأردنية ووهم الديمقراطية ومسرحية تشكيل مجلس الوزراء والعرض الساخر لثقة مجلس النواب بالحكومة...

المنفر بالموضوع ان وزارة الصحة ووزارة التنمية الاجتماعية... لا تملك حتى ذاكرة السمك... لان موضوع الوقاية والاكتشاف المبكر لعوامل الخطر المتعلقة بالعنف والجريمة خارج اهتماماتها أصلا وهي غير معنية به مطلقا... وأكثر ما يمكن إنجازه من المؤسسات الأخرى، كالمجلس الوطني لشؤون الأسرة، هو تشكيل لجنة تحقيق تتعثر ببيروقراطية، تخفي وراءها تخلف إداري وفساد المؤسسات ذات العلاقة بموضوع التحقيق، والمخرجات بعد عدة أشهر تقرير هزيل "لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ"

جرائم القتل حسب مرجعيات منظمة الصحة العالمية ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة، يقسم لثلاثة أقسام رئيسية كما يلي:
1) القتل المرتبط بالعلاقات ما بين الأشخاص وتكون الجريمة في هذا النوع من القتل بسبب وجود نزاع ما بين الجاني والمجني عليه، أو لقيام الجاني بعقاب المجني عليه لأسباب اجتماعية، ثقافية، او اقتصادية. وينقسم إلى (أ) القتل المرتبط بالنوع الاجتماعي والقتل المرتبط بالعلاقات الأسرية، والقتل العرفي (جرائم الشرف)، والانتحار بعد قتل أفراد الأسرة، وفي هذه الجرائم يكون الجاني والمجني عليه في نفس المسكن أو بينهما علاقة اجتماعية، ويرتبط هذا القتل بعوامل عاطفية أو اقتصادية أو قانونية. (ب) القتل خارج العلاقات الأسرية والعاطفية وهو مرتبط بقضايا الثأر أو الخلاف على الممتلكات، الخلافات ما بين الجيران، أو بين الغرباء تماما بحيث يكون الجاني والمجني عليه لا يعرفان بعضهما البعض مسبقا ويكون القتل هنا مرتبط بفعل عنفي عشوائي بظروف جمعت بينهما، وأيضا مرتبط بهذا النوع القتل الجماعي في أماكن العمل او المدرسة.
2) القتل المرتبط بجرائم جنائية وينقسم الى (أ) القتل المرتبط بالاتجار بالمخدرات وجرائم السرقة والسطو المسلح، والقتل المرتبط بالجرائم الجنسية، وقد لا يكون القتل هو الهدف الرئيسي لكنه ينفذ كجزء من تنفيذ الجريمة او للحيلولة دون اكتشاف السارق او المغتصب. (ب) الجريمة المنظمة من قبل العصابات وتجار المخدرات والأسلحة وتهريب البشر وتستهدف المنافسين او القائمين على العدالة أي الشرطة والقضاء أو استعراضا للقوة والسيطرة على مناطق محددة لشيوع الجريمة المنظمة.
3) القتل المرتبط بأجندات إجتماعية-سياسية ومثال عليها (أ) القتل المرتبط بالإرهاب وجرائم الكراهية، والتمييز العنصري حسب العرق، والجنسية، والدين، والمستوى الاجتماعي الخ... (ب) القتل المرتكب من قبل ضباط تطبيق القانون، (ج) قتل التنظيمات الاجتماعية-السياسية السرية اشخاص لهم رأي معلن دفاعا عن مبادئها. (د) قتل العاملين في مجال الصحافة والخدمات الإنسانية التطوعية وفي مؤسسات الأمم المتحدة. 

شيوع النوع الأول من جرائم القتل المنوه عنه أعلاه موثق في الأردن ويشكل جزءا إحصائيا هاما من مجمل جرائم القتل، وهناك عدة حالات من النوع الثاني المرتبط بالجرائم، وتم مؤخرا توثيق وقوع حالات من النوع الثالث المتعلق بجرائم الكراهية. الوقاية من هذا الجرائم عموما، كما تشير المراجع المعرفية المسندة، لا يعتمد بدرجة كبيرة على تشديد  العقوبة للردع، وإنما على برامج الوقاية الأولية بالتعامل مع عوامل الخطورة للجريمة قبل حدوثها وأيضا على برامج الوقاية الثانوية الموجهة لفئات من المجتمع معرضة للخطر أكثر من غيرها...

إتمام جريمة القتل يتطلب ان يكون هناك دافع للقتل ويتبعه التخطيط وظروف تسمح بالتنفيذ وسياق يوفر أداة الجريمة ومكانها وقدرة على التنفيذ مرتبطة مباشرة بماهية العلاقة ما بين الجاني والمجني عليه، وللأسف يغيب عن ذهن الكثيرين ان جريمة القتل لا تكتمل الا بتراخي وعجف الحكومة...
هل هناك مسؤولية على الحكومة بحدوث مثل هذه الجرائم؟ لنضع النقاط على الحروف بصراحة:
1) وزارة الصحة لا زالت تنأى بنفسها عن مهمة رئيسية تتعلق بحياة وصحة الإنسان وهي الوقاية من العنف والإصابات، على الرغم من توصيات منظمة الصحة العالمية بإنشاء مديرية الوقاية من العنف والإصابات ومنذ عدة سنوات إلا أنها لم تبادر مطلقا للولوج في هذا المجال وكأنها غير معنية به.
2) شيوع الأمراض والاضطرابات النفسية والإدمان وضعف الاستجابة لها على المستوى الوطني بالوقاية وبتوفير الخدمات العلاجية والتأهيلية وبالعمل على تطوير التشريعات المتعلقة بالطب النفسي، ويشمل ذلك وللأسف الأطفال اقل من 18 سنة حيث لا يوجد جهة حكومية تقدم الرعاية الطبية النفسية لهم.
3) وزارة التنمية الاجتماعية لا زالت متعثرة في برامج حماية الأسرة وخاصة برامج الوقاية وتغيير الاتجاهات السلبية بالمجتمع المتعلقة بالعنف، وأيضا هناك ضعف مزمن ببرامج الاستجابة للعنف الأسري والتي تتفاقم وتتكرر ليصاحبها جرائم قتل أسري.
4) هناك غياب أي جهة تتحمل مسؤولية علاج وتأهيل الأطفال مرتكبي الجرائم (الاحداث) بشكل متكامل من الناحية النفسية والاجتماعية، علما بأن الأبحاث تشير لاحتمال نجاح برامج تأهيلهم إذا تمت في وقت مبكر وبالتالي الوقاية من ارتكابهم جرائم، بما فيها القتل، عند تعديهم مرحلة الطفولة.
5) وزارة الداخلية: غياب السيطرة على شيوع أدوات ارتكاب جرائم القتل وخاصة الأسلحة النارية الصغيرة من الناحية التشريعية والتنفيذية، وعدم إعطاء أولوية لمواجهة الاتجار بالسلاح بالسوق السوداء.
6) شيوع التعاطي والاتجار بالمخدرات بأشكالها وخاصة العقاقير الطبية والمخدرات رخيصة الثمن المصنعة محليا، وشيوع فكرة هزيلة من أن الأردن لا زال ممراً للمخدرات وليس منتجا أو مستهلكا لها، علما بأن الترويج و الاقتناع بهذه الفكرة يؤدي لضعف الرقابة من قبل الأهل والمدرسة ومؤسسات المجتمع على الأطفال والأبناء.
7) مجلس النواب: الفجوات في التشريعات الاردنية التي لا زالت تسمح بالإفلات من العقاب وخاصة بجرائم قتل النساء والأطفال داخل الأسرة والمتعلقة بإسقاط الحق الشخصي.
عبارة "نحن جميعنا نتحمل المسؤولية"، أي المجتمع والدولة هي عبارة يعصى علي فهمها... لان من يتحمل المسؤولية في مواجهة عوامل الخطورة هي وزارات محددة تخفق بمهام يتوقع منها أن تنجزها بمهنية وحرفية وبمرجعية قانونية أخلاقية.
الدكتور هاني جهشان، مستشار أول الطب الشرعي